حياة بين طيات الكتب!

بقلم: نصر حماده

يصف المتنبى الكتاب بأنه خير جليس في الزمان فيقول:

‏ أعزُّ مكانٍ في الدُّنَى سَرجُ سابحٍ … وخيرُ جَليسٍ في الزمانِ كِتابُ

الكتاب صديق ويحمل بين طياته الكثير من الأصدقاء.. بجانب المغامرات والأماكن والإثارة والحنين والذكريات والحياة الجديدة التي تبدأ مع بداية كل كتاب.. ويقال أن القارئ يعيش ألف حياة قبل أن يموت.. بينما من لايقرأ يعيش حياة واحدة فقط، ولا يعرف كيف يستمع بها.

سنوات بين الكتب

في قصة الراهان، التي تعد أحد روائع الأدب الروسي، والتي كتبها الطبيب الأديب والكاتب المسرحي ” أنطون تشيخوف ” عام 1899 وتحكي عن رهان حدث بين محامي شاب ورجل مصرفي عما إذا كانت عقوبة الإعدام أفضل أو أسوأ من السجن المؤبد.. بعدما أفصح الشاب عن رأيه في الموضع قائلاً:

 إن الحُكم بالإعدام و الحكم بالسجن المؤبد كلاهما عمل لا أخلاقي، لكن لو خيرت بين الأمرين لاخترت بالتأكيد السجن المؤبد، فأن تعيش، بأية حال، أحسن من أن تفارق الحياة

نشأت عن ذلك إثارة في النقاش، فالمصرفي الأصغر سنا و الأكثر عصبية في تلك الأيام صرخ فجأة بحماس، و هو يضرب بقبضة يده على الطاولة قائلا للمحامي الشاب: ” هذا غير صحيح! سأراهن بمليونين على أن تمكث في حبس انفرادي لمدة خمس سنوات.”

رد الشاب: ” إن كنت جاداً في هذا، فسأقبل التحدي، و لكن لن أمكث خمس سنوات و إنما خمس عشرة سنة.”

– ” خمس عشرة سنة ؟ حسنا! .. أيها السادة، أنا أراهن بمليونين! “

شروط الرهان

وكانت شروط الرهان التي وضعها المصرفي المليونير تقتضي بأن يمضي الشاب خمسة عشرًا عامًا تحت الرقابة الجبرية في حديقة المليونير الخاصة، وغير مسموح له نهائياً برؤية الناس أو التحدث معهم وكذلك غير مسموح باستلام الرسائل والصحف.

في المقابل كان مسموح فقط للسجين الشاب بنافذة صغيرة مطلة على حديقة المنزل، تسمح بمرور بعض نسمات الهواء وكذلك مسموح له باصطحاب ألته الموسيقية، والكتب، وله الحق في التدخين، وكتابة الرسائل.. كما نص الرهان على عدم خروج الشاب نهائيًا إلا بعد إتمام الخمسة عشر عامًا وتحديداً منذ الساعة الثانية عشرة من يوم 14 نوفمبر عام 1870، إلى الساعة الثانية عشرة من يوم  14 نوفمبر عام 1885.. بعدها يصبح الشاب حرًا ويحصل على المليونين، ولكن لو خرج قبل تلك المدة ولو بدقيقة واحدة يخسر الرهان.

أمضى المحامي السجين سنواته الأولى بين الوحدة والملل. ولم ينقطع صوت البيانو المنبعث من غرفته ليلًا ولا نهارًا. وقرأ خلال تلك  الفترة كتبًا خفيفة وروايات تتحدث عن قصص حب معقدة، وقصص الجريمة والخيال، وقصص الكوميديا. ثم انقطع صوت البيانو، وانحصر طلب المحامي على الكتب الكلاسيكية فقط. وفي السنة الخامسة، عادت الموسيقى مجددًا تنبعث من غرفته.

ظل المحامي الشاب ملتزماً بقوانين الرهان،متخبطاً بين القراءة والكتابة والعزف على البيانو والشرب والتدخين. واتسمت قراءاته في أخر عامين  بالغزارة و العشوائية، وبعدها بدأ في قراءة أعمال (بايرون) و(شكسبير). وتلقوا منه في نفس الوقت رسالة يطلب فيها كتابًا في الكيمياء، وآخر في الطب، ورواية، وبعض الدراسات في الفلسفة وعلم الأديان.. كان يقرأ كمن يسبح بين حطام سفينة، ويهرع ليجمع أجزاءها واحدة تلو الأخرى فينجو بحياته.

القرار الأخير

حتى جاء اليوم قبل الأخير، وجال في خاطر المصرفي أن غدًا في تمام الساعة الثانية عشر، سيستعيد المحامي حريته، ويجب أن يعطيه المليونين بموجب الرهان والاتفاقية. لكن حينها سيفقد كل شئ وستكون هذه نهايته.. بعدما أصبح لا يملك إلا القليل من المال بسبب المقامرة في سوق الأسهم، و المجازفات.

وما إن فكر المصرفي في التخلص من المحامي الذي أصبح في الأربعين من عمره، لأن تلك الطريقة هي الوحيدة للهروب من الإفلاس والفضيحة.. تسلسل في الثالثة صباحاً إلى غرفة المحامي السجين  لينفذ مخطته، ليجده مستقراً أمام الطاولة، وقد أصبح لا يشبه البشر في شيء. كان أشبه بهيكل عظمي يلتصق به جلد، له شعر مجعد طويل كالنساء، ولحية شعثاء، ووجه اكتسى بلون أصفر. كما استقرت ورقة صغيرة على الطاولة أمام رأسه المنحني، وقد كتب عليها شيئًا بخط صغير. التقطها المصرفي العجوز ليقرأ ماكتب فيها فكان ضمن محتواها.

قرأت بدأب عن الحياة الدنيا لمدة خمسة عشر عامًا. أعلم أنني لم أشهد الدنيا، أو البشر، لكني ارتشفت النبيذ العطر، غنيت الأغنيات، واصطدت الغزلان والخنازير البرية في كتبكم. أحببت النساء… وزارتني في المساء نساء فاتنات كالسحب، خلقهم سحر قلم شعرائكم العباقرة، ليهمسوا في أذني أروع الحكايات، التي أسكرتني. تسلقت في كتبكم قمم جبال (بروس) و (مونت بلانك) لأشاهد شروق الشمس صباحًا؛ ثم يعقبها الليل وهو يغمر السماء، والمحيط، ويكسو حواف الجبل باللون الأرجواني. رأيت من فوق تلك القمة البرق وهو يضرب ويشق السحب. رأيت الغابات الخضراء، والحقول، والأنهار، والبحيرات، والبلدان. سمعت غناء الحوريات، وعزف المزامير. لامست أجنحة الملائكة الجميلة الذين جاءوا ليحدثوني عن الرب… في كتبكم غرقت حتى أذني في هاويات، ومعجزات، و مدن محترقة. بشرت بديانات جديدة، وغزوت بلاد بأكملها..كما أضاف أنه سيخالف الإتفاق ويغادرالغرفة قبل الميعاد المتفق عليه، فهو لايرد المليونين الذي طنهم النعيم يوماً ما.

لقد انعزل خمسة عشر عاماً، شاهد خلالهم العالم من نافذة الكتب، مارس هوايات، وأحب نساء.. تسلق قمم الجبال، ورأي الغابات والحقول والأنهار والبحيرات والبلدان.. سمع غناء الحوريات، وعزف المزامير.. تعلم اللغات وخاض المغامرات.. عاش ألف حياة أو يزيد بين طيات الكتب.

رواية أرض زيكولا

بالنسبة لي كانت “أرض زيكولا” للكاتب عمرو عبد الحميد هي بوابة العبور إلى عالم القراءة، لأظل أسير هذا العالم حتى وقتنا الحالي.. ومع كل رواية جديدة أحيا حياة جديدة، بأماكن جديدة،و أصدقاء جدد، مغامرة مختلفة.. خضت مغامرات مرعبة في روايات حسن الجندي، وتعاملت بوحدات الذكاء في روايات عمرو عبدالحميد.. ألقيت الروايات من يدي مرات عديدة خوفاً من موت شخيصة أحبها بين سطور الراوية، كرهت شخصيات دون سابق معرفة.. عشت فوق حياتي حيوات بفضل طيات الكتب.

كتاب ساعات بين الكتب

يقول الأديب والمفكر عباس محمود العقاد في كتاب ساعات بين الكتب واصفاً عالم الكتب: 

ليس للأوراق في «علم صناعتي» مادة غير مادة اللحم والدم، وليست المكتبة عندي – أيٍّا كانت ودائعها – بمعزل عن هذه الحياة التي يشهدها عابر الطريق، ويحسها كل من يحس في نفسه بخالجة تضرب وقلب يجيش وذاكرة ترن فيها أصداء الوجود.

و يرى العقاد في كتاب ساعات بين الكتب بأن الساعات التي تقضيها بين الكتب ماهي الا ساعات في غمار هذه الحياة بين الأحياء العائشين أو الأموات الذين هم احيا من الأحياء.